جنيف(عرب برس):أعلنت جائزة الآغا خان للعمارة في جنيف منذ فترة عن قائمة المشاريع المرشحة لجائزتها المرموقة في دورتها لعام 2019، والتي تبلغ قيمتها المالية مليون دولار أمريكي. وتضمنت القائمة عشرون مشروعاً فريداً ومتميزاً من أنحاء مختلفة من العالم،
من بينها تسعة مشاريع من سبع دول عربية هي فلسطين، الإمارات العربية المتحدة، لبنان، جيبوتي، عمان، البحرين وقطر. سوف نسلط الضوء في هذا الجزء من من هذه السلسلة من المقالات على واحد من المشاريع العربية الرائدة التي تم ترشيحها للجائزة، وهو مشروع المتحف الفلسطيني، آملين أن تجد هذه المشاريع جميعها طريقها للفوز بالجائزة الأكثر أهمية وحضوراً في العالم.
***
من بين المشاريع العشرين المرشحة للجائزة يحط بنا الرحال في بناء أخضر متميز، تحيط به حدائق خضراء وافرة لتزيد من جماله وتألقه، وتحوله إلى أكثر من متحف، بل تجعل منه مكاناً فريداً تلتقي فيه جميع الاهتمامات والأعمار والاختصاصات، وتعكس جدرانه الحجرية ومقتنياته الفريدة ونشاطاته الرائدة عبق التاريخ وروعة الحاضر وأمل الغد. ونحن نتحدث هنا دون شك عن المتحف الفلسطيني في بلدة بيرزيت - فلسطين، الذي يقع على تلة مشرفة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
والمتحف الفلسطيني كما يقدم نفسه رسمياً هو "مؤسسة ثقافية مستقلة، مكرسة لتعزيز ثقافة فلسطينية منفتحة وحيوية على المستويين المحلي والدولي. يقدم المتحف ويساهم في إنتاج روايات عن تاريخ فلسطين وثقافتها ومجتمعها بمنظورٍ جديد، كما يوفر بيئة حاضنة للمشاريع الإبداعية والبرامج التعليمية والأبحاث المبتكرة، وهو أحد أهم المشاريع الثقافية المعاصرة في فلسطين، وأحد أهم برامج مؤسسة التعاون".
تعود بدايات فكرة تأسيس المتحف إلى عام 1997، عندما تقدم أعضاء مجلس أمناء مؤسسة التعاون، وهي مؤسسة أهلية فلسطينية غير ربحية، بفكرة تأسيس متحف تخليدًا للذكرى الخمسين للنكبة، لتوثيق هذه الكارثة التي شكلت نقطة تحول في تاريخ فلسطين الحديث. غير أن فكرة المتحف تغيرت مع الوقت، ولم تعد تقتصر على الحفاظ على الذاكرة فحسب، بل أصبحت تسعى أيضًا للنهوض بالثقافة الفلسطينية والاحتفاء بها، من خلال سلسلة من المشاريع الإبداعية والخلاقة، التي تتيح لجمهور المتحف التأمل في الحاضر وتخيل مستقبل أفضل. وهذا ماتعبر عنه السيدة زينة جردانة، رئيسة مجلس إدارة المتحف الفلسطيني بالقول: "هذه مؤسسة ذات رسالة؛ الرسالة هي الثقافة الفلسطينية، على الصعيدين المحلي والخارجي. نريد أن نتحدث عن الماضي، ونريد أن نتعلم من التاريخ، ولكننا في الوقت نفسه نريد أن نتحدث عن حاضرنا وعن مستقبلنا أيضًا".
صمم المتحف المكتب المعماري الإيرلندي هينغان بينغ على أرض مساحتها 40 دونمًا، ليكون تحفة معمارية متميزة ذات نمط حديث وعصري، ويمتزج بناؤه مع المدرجات المتتالية (السناسل) التي تتميز بها التلال الفلسطينية. غير أن أهم مايميز المتحف هو سعيه نحو تحقيق الاستدامة، وهذا ماتعبر عنه المهندسة المعمارية روزين هينجهان بالقول أن مجلس الإدارة كان داعماً كبيراً للمشروع، وكان يؤكد دوماً على التأكد من تحقيق الاستدامة في كل تفاصيل التصميم والبناء لهذا المشروع. وتضيف قائلة: "إذا كنت ترغب في بناء متحف، فيجب أن يكون كل شئ فيه مستدامًا، وليس مجرد هيكل ضخم سيكون من الصعب تشغيله، كان هذا الأمر دائماً محور تركيزنا، وكان يجب علينا دوماً التأكد من أن كل شئ فيه مستدام للعمل."
تم بناء المتحف وتغطيه واجهته باستخدام الحجر الجيري المحلي، بينما تم استخدام الحجارة الحقلية الصغيرة في بناء وتغطية المصاطب الخارجية. لذا كان من الضروري الاستعانة بالخبرات المحلية التقليدية في بناء هذه المصاطب التي تتطلب الكثير من المهارة والحنكة. وتؤكد المعمارية روزين هينجهان على هذا الأمر بالقول: " تم بناء جميع المصاطب يدوياً، وقد تطلب ذلك الاستعانة بالمعرفة المحلية، التي تشبه إلى حد كبير الأعمال اليدوية التقليدية (أرتيزانا)".
وتحيط بالمتحف سلسلة من الحدائق التي تضم بين سلاسلها الحجرية مجموعة من نباتات البيئة الأصلية لفلسطين، بالإضافة إلى مجموعة من النباتات والأشجار التي تم استيرادها عبر العصور. تروي حدائق المتحف والتي صمّمتها المهندسة الأردنية لارا زريقات حكاية التاريخ الزراعي والنباتي في فلسطين خلال مراحله المختلفة. في الواقع، لاتقل هذه الحدائق روعة وجمالاً وأهمية عن المتحف نفسه، إذ تقول المعمارية روزين هينجهان: "في ظل المناخ الذي تعرف به هذه المنطقة، شعرنا أنه من الأهمية بمكان أن نخلق مساحات خارجية توسع من المساحات الموجودة أصلاً ضمن المتحف. وأعتقد أيضًا أن عدداً كبيراً من الناس الذين قد يشعرون بالتردد في زيارة المتاحف سوف يرغبون بزيارة هذه الحدائق والسير على مروجها الخضراء، وقد يكون هذا الأمر وسيلة لفتح هذا المتحف على نحو أكبر للعموم. وهنالك ايضاً مساحة للمعارض الخارجية، ولاشك أن هذا الأمر سوف يجعل هذا المتحف أكثر وصولاً أيضاً".
في النهاية يُعتبر المتحف الفلسطيني أول مبنى أخضر حاصل على الشهادة الذهبية للريادة في تصميمات الطاقة والبيئة في فلسطين (LEED) من المجلس الأمريكي للأبنية الخضراء، ويحرص على أن يكون نموذجًا يحتذى به في الاستدامة البيئية من خلال الالتزام بمعايير الأبنية الخضراء العالمية. وتؤكد المعمارية روزين هينجهان على هذا الأمر بالقول: "إنه مبنى أخضر بالفعل، وهو حاصل على الشهادة الذهبية للريادة في تصميمات الطاقة والبيئة التي تتطلب درجة عالية من التحكم في الأنظمة وهذا أمر غير دارج في هذا المكان، لذلك فإن مجرد الوصول إلى كل ماتم تنفيذه في هذا المكان، كان شيئًا جديدًا على الأرجح في المنطقة كلها". يوفر المتحف في الاستهلاك السنوي للمياه بنسبة 48% وللطاقة بنسبة 15% والتي تعتبر من المقاييس العالية عالميًا.
لاشك أن المتحف الفلسطيني في بيرزيت يتجاوز دوره الرئيس الذي بني لأجله كمكان يعرض التاريخ العريق لهذه الأرض الطيبة، ليصبح اليوم منصة ثقافية واجتماعية وتعليمية رائدة في بلد لازال يعاني حتى اليوم من قسوة الحرب، ومنبر لايستهان به للتعبير عن حضارة وثقافة هذا البلد العظيم، وهو يستحق دون شك أن يكون من بين المشاريع المرشحة للفوز بجائزة عالمية قديرة بحجم جائزة الآغا خان للعمارة. تقول السيدة زينة جردانة: "هذه هي طريقتنا في إنتاج المعرفة، والمعارض القائمة على البحوث، والبرامج القائمة على الأبحاث للتعلم ونشر كلمتنا داخل وخارج فلسطين". بينما تختم السيدة عادلة العايدي-هنية، مديرة المتحف الفلسطيني بالقول: "مجرد حقيقة أن المتحف الفلسطيني كمبنى والبرامج الملحقة به موجودة بالفعل، هذا الأمر بحد ذاته يعتبر بالنسبة لنا قوة أمل هائلة."
الجدير بالذكر أن جائزة الآغا خان للعمارة هي واحدة من أقدم وأهم جوائز العمارة في العالم. تأسست هذه الجائزة في عام 1977 من قبل صاحب السمو الآغا خان، بهدف تحديد وتشجيع الأفكار الرائدة في مجالات العمارة والبناء التي تنجح في التصدي لاحتياجات وطموحات المجتمعات التي يكون للمسلمين وجود معتبر فيها. وتركز الجائزة على نماذج المشاريع التي تعتمد معايير جديدة في التميز المعماري في مجالات التصميم المعاصر، الإسكان الاجتماعي، تحسين وتطوير المجتمع، الحفاظ على المواقع التاريخية، الحفاظ على المساحات وإعادة استخدامها، بالإضافة إلى هندسة المناظر الطبيعية وتحسين البيئة. منذ انطلاقتها منذ 42 سنة مضت تلقى 116 مشروعاً الجائزة كما تم توثيق أكثر من 9000 مشروع بناء.
تختلف جائزة الآغا خان للعمارة برسالتها عن غيرها من جوائز العمارة كونها تختار مشاريعاً تتراوح من الارتقاء بالأحياء الفقيرة لتصل إلى المباني الخضراء الشاهقة الارتفاع- والتي لا تقدم نموذجا في التميّز المعماري فحسب بل وتساهم نحو جودة حياة أفضل. لاتكرم الجائزة المهندسين المعماريين فحسب، بل يمتد هذا التكريم ليشمل أطراف أخرى مشاركة بالمشاريع مثل البلديات، وعمال البناء، وأصحاب العمل، والعمال المهرة، والمهندسين الذين كان لهم دور مهم في إنجاز المشاريع.
__
المُرسل:غلوبال نيوز برس