الهند-كتب(د.أورانك زيب الأعظمي)
الملخّص:
هذه الرّواية هي متاهة سرديّة محترفة بين عوالم التّذكّر والنّسيان،وهي تقدّم ذاتها على اعتبار أنّها تداخل لأزمان امتدّت لنحو سبعة عقود في تخوم مكانيّة ملبسة وغير محدّدة جغرافيّاً وفق ما هو معروف خرائطيّاً،وإنّما المكان والزّمان في هذه الرّواية هما وحدتان مُستدعيتان ضمن توليفة الحدث الذي يلعب دور البطولة في الرّواية.
وهذه اللّعبة السّرديّة تراوغ القارئ في سبيل تقديم الحقائق ضمن جدليّة التّذّكر والنّسيان وامتدادهما في القصّ بين التّطواح المدوّخ بين عوالمهما المتداخلة المربكة،ويتمّ ذلك عبر ما تقدّمه لنا من معلومات من خلال بوح أبطال الرّواية،ورصد حيواتهم،والتّجسّس المباح على ذواكرهم،وعلى ما كتبوه في مذكراتهم،أو ما باحوا لنا به،أو سمحوا لنا بشكل أو بآخر بأن نعرفه،لنكتشف مقدار اللّبس الذي يتملّك شخوص الرّواية إلى حدّ أنّنا نكتشف مقدار الازدواجيّة والكذب القسريّ والاختياريّ الذي عاشوه،وقدّموه لنا،ثم تراجعوا عن الإصرار عليه في لحظات شعوريّة حسّاسة،إلى أن قرّروا أن يبحوا لنا بالحقائق كاملة التي كانت تنزوي في دواخلهم بقرارات شخصيّة لأجل الهروب من فكرة الألم والمعاناة الملحّة عليهم جميعاً بشكل أو بآخر.
وأخيراً تنتهي الرّواية بخيار خطير،وهو خيار النّسيان الكامل للماضي،وإنكاره،والبدء من جديد في حياة أخرى مشبعة للرّغبات المكبوتة،ومتجاهلة لكلّ ما حدث في الماضي من أوجاع،وبذلك يبدأ البطلان وهما في سنّ السّبعين حياة أخرى فرحة مناقضة لحياة الماضي التي عاشاها بما فيها من حزن وإخفاقات، بعد أن أخذا هذا القرار ضمن توليفة صراع مرير مع الماضي والحاضر،وصولاً إلى صيغة مصالحه مع الحاضر تتلخّص عندهما في شيء واحد،وهو نسيان الماضي الذي لا يمكن الانفكاك عنه إلاّ بتجاوزه،كما لا يمكن تغير حقائقه إلاّ بإنكارها عبر لعبة النّسيان التي بدأتها بطلة الرّواية " بهاء" عبر مرضها ثم غيبوبتها،ومن ثمّ انساق إليها بطل الرّواية " الضّحّاك" الذي قرّر أن يجاري حبيبته في لعبتها المرض/ النّسيان،وأن ينسى الماضي والحاضر،ما دام لا يستطيع أن يأخذها إلى المستقبل الذي يقدّمه لها في حياته الرّاقية الجميلة الهادئة،وأن يلعب معها لعبتها التي اختارتها ،وهي لعبة النّسيان،من أجل أن يحظيا بحياة أخرى،أو فرصة جديدة عادلة على خلاف الحياة الظّالمة التي تورطا فيها في الماضي.
عندئذٍ تقرّر البطلة " بهاء" الخروج من غيبوبتها التي هي معادل موضوعيّ للموت والهزيمة والخسارة،وتقرّر أن تعيش،وأن تستيقظ من سباتها،وأن تنتصر للحياة،بشرط ضمنيّ واحد،وهو نسيان الماضي،وهو شرط حقّقه البطل " الضّحّاك" سلفاً عندما قام بتمزيق مذكّراتها المخطوطة بما تحوي من أسرار موجعة،وقام بكتابة رواية لها تحمل عنوان الرّواية ذاتها،وهي رواية يمكن أن نعدّها حياة بديلة عن الحياة الماضية ؛ إذ كتبها البطل بكامل خياراته ووعيه وقراراته،ليمحوَ بها أيّ أثر للماضي،ويرسم بكلماته التي عدّها نبوءة المستقبل صورة جديدة للحياة والمستقبل،وكأنّه يقدّم لبطلة الحياة وعداً بحياة جديدة إنْ هي استفاقت من غيبوبتها.
وهذا ما يحدث فعلاً في الرّواية عندما تستيقظ البطلة من سباتها بمعجزة دون أيّ مسوّغ طبيّ لذلك،وتستأنف وجودها الفاعل في الحياة،بدل الاستسلام السّلبيّ للعجز والحزن والحسرة والهزيمة التي اختارتها عندما قرّرتْ أنْ تستسلم للمرض،وأنْ تهرب معه وإليه في آن.
ليكون خيار النّسيان هو الخيار الذي تجنح إليه بعد أن تصاب بغيبوبة طويلة لمدّة عامين بسبب إصابتها بمرض السّرطان في الدّماغ،ويتنبّأ الأطبّاء بموتها وفق وضعها المرضيّ الملبس الذي قضى على ذاكرتها في رحلة صراع طويلة مع المرض؛إذ ابتدأ صراعها مع سرطان الثّدي والرّحم،وانتهى بصراعها مع سرطان الدّماغ،مروراً بصراعات نفسيّة وفكريّة ومجتمعيّة وقدريّة لا حدود لها.
ولكن تكون المفاجأة للجميع عندما تستيقظ بطلة الرّواية من غيبوبتها التي يمكن أن نعتقد أنّها كانت اختياريّة من قِبَلها لتهرب من وجع حاضرها إلى رحلة بحث عن عوالم فرحة رحيمة.
ويتحوّل السّرد في انعطافة كبيرة عندما نكتشف أنّ " بهاء" قد نسيت الماضي كلّه بما فيه من أحداث وأزمان وأماكن وشخوص ومعاناة،ولم تعد تذكر سوى اسمها،واسم الرّجل الذي تحبّه " الضّحّاك"،وتعود إلى ذاكرة طفلة في السّن الذي فارقت حبيبها فيه إبّان كانت سجينة مضطهدة في ميتم حكوميّ مفزع؛ وبذلك تقدّم لنا صورة مسخ للوجود الإنسانيّ الحزين الموجع ،إذ هي طفلة في السّبعين من عمرها!
وينعطف السّرد انعطافة أخرى مفاجأة أخرى عندما يقرّر بطل الرّواية أن ينكر حاضره،وأن يخرج منه؛ ليدخل إلى زمن مفترض،وهو زمن الطّفولة المستدعاة بعودة حبيبته،وبذلك ينكرا كلاهما العالم الحقيقيّ الذي يعيشان فيه،ويقرّران أن يعيشا طفولتهما مرّة أخرى في سن شيخوختها ليظفرا بكلّ ما حرما منه في الماضي من فرح وسعادة واغتباط وبراءة الطفّولة ونقائها.
ومن جديد تأخذنا الرّواية إلى انعطافه ثالثة مرهقة ومباغتة عندما نقرأ في نهايتها أكثر من نهاية مفترضة لها بخلاف النّهاية الأولى الموجودة في بداية الفصل الأخير من الرّواية المعقود تحت عنوان " الماضي" ،وبذلك لا نعرف إنْ كانت هذه الرّواية هي قصّة بطلتها " بهاء" في صراعها مع الحياة والمرض والغيبوبة،أم هي قصّة " الضّحّاك" في صراعه مع المرض والغيبوبة، أم أنّها قصّة مفترضة كتبتها " باربرا " من وحي خيالها؟،أو بتأثّر بقصّة حبّ شرقيّة كانت الشّاهدة عليها،ولعبتْ فيها دور المحبّة التي تعشق مَنْ لا يعشقها،ولكنّها تتفانى في خدمته والإخلاص له في انتظار حبّه لها.
لكن الشّيء الوحيد الأكيد في هذه الرّواية ضمن غابة النّهايات المفترضة في نهايتها التي تقودنا إلى المزيد من القلق والدّوار والحيرة،هو أنّ بطليها " بهاء" و" الضّحّاك" انطلقا ليعيشا السّعادة والحبّ بشكل ما بعد فراق دام لنحو ستة عقود من المعاناة والحرمان والألم،وأنّهما وجدا صيغة ما للحياة سويّاً،ولتجاوز الماضي بتفاصيله وانكساراته وتوجّعاته وبوائقه ومجاهيله السّوداء وتجاربه القاسية،وبذلك انتصارا لفكرة واحدة،وهي الحبّ والأمل مهما توحّش العالم،أو طالت المعاناة،أو ساد الظّلام والظّلم وصنّاعهما.
الكلمات المفتاحيّة: رواية عربية/ رواية أَدْرَكَهَا النّسيانُ/ سناء شعلان/آليّات تشكيل ورؤية/ تذكّر/ نسيان.
الحكاية وسرديتها:
هذه الرّواية الكبيرة في عدد صفحاتها وترميزاتها وإحالاتها،تدور حول امرأة ستينيّة اسمها " بهاء" مصابة بمرض السّرطان في دماغها،وقد استفحل إلى درجة أنّه قد أصابها بحالة مرضيّة نادرة تجعلها تخسر ذاكرتها جزءاً فجزءاً لحظة تلو الأخرى،حتى كادت لا تتذكّر من تكون بالضّبط،كما أصابها بجملة من الإعاقات الجسديّة،على رأسها حالة شبه شلل كامل في أطرافها ووظائف جسدها.
وفي هذه المرحلة الكئيبة من حياتها وعجزها وشيخوختها،تلتقي بالصّدفة البحت بحبيبها " الضّحّاك" بعد نصف قرن من الغياب بعد أن أصبح عمره في نهاية السّتين،عند اللّقاء تكون مريضّة عاجزة حزينة ووحيدة وفقيرة ،وتطلب الاستشفاء في منتجع صحيّ في غابة اسكندنافيّة برفقة صديقتها المخلصة لها " هدى"،بعد أن بدأتْ تتيه في عوالم النّسيان،وفقدت القدرة على النّطق والحركة خلا القليل الباقي منهما،كما فقدت المعين والمال والملجأ.
لكن المفاجأة أنّها تتجاوز مرضها المسيطر عليها،وتذهل أطباءها عندما تتذكّر حبيبها " الضّحّاك" بمجرّد رؤيتها له،وتهتف بفرح " أنتَ الضّحّاك سليم .أنا أعرفكَ. أنا أعشقكَ" [2] ،عندها يقرّر " الضّحّاك" أن يعود بها إلى بيته وحياته حيث يعيش حياة سعيدة ومرفّهة وراقية في مدينة من إحدى المدن الاسكندنافيّة.
ولا يجد بطل الرّواية مع حبيبته المريضة سوى بضعة أشياء متواضعة،من جملتها مخطوطة رواية كتبتها له،ومن هنا تبدأ الأحداث والأزمات في التّداخل والتأزّم ليحدث الكشف الكامل في الرّواية،ونعرف أحداث حياة البطلين عبر سبعين عاماً من حياتهما؛ فندرك أنّ بطل الرّواية " الضّحّاك" قد أصبح أستاذاً جامعيّاً شهيراً متخصّصاً في الأدب المقارن والتّراث الشّعبيّ، إلى جانب أنّه روائيّ عالميّ له سيط مرموق،وإنْ كانت حياته الشّخصيّة غير سعيدة؛ إذ إنّه قد تزوّج ثلاثة نساء حمراوات على أمل أن يجد الحبّ والسّعادة المنشودة مع إحداهنّ،لكن كلّ واحدة منهنّ تخلّتْ عنه،وطلّقته،وأخذتْ جزءاً كبيراً من ثروته دون أن يحظى بأيّ طفل من أيّ من هذه الزّيجات الثّلاث.
وهذه الحياة السّعيدة إلى حدّ كبير على الرّغم من إخفاقات الزّواج جعلت " الضّحّاك" ينسى معاناة طفولته وصباه في وطنه الأم حيث كان يعيش في الميتم إلى جانب " بهاء" حتى طُرد من هناك،وتشرّد في الشّوارع،وتعرّض للاعتقال،وكاد يفقد بصر عينيه بسبب التّعذيب،لولا تدخّل ابن عمّ أبيه الذي أنقذه من ذلك كلّه،وتبنّاه،وأخذه معه إلى المهجر حيث يعيش مع زوجته الإغريقيّة الطّيبة وابنه الوحيد،ليعيش هناك حياة كريمة سعيدة،تسمح له بأن ينال أقساطاً وافرة من السّعادة والحريّة والتعلّم والثّراء والشّهرة والأمن والكرامة الإنسانيّة،ولكنّه ظلّ يحلم بأن يتلقي بحبّه الأوّل والأخير،وهي حبيبته " بهاء" التي حُرم منها قسراً عندما فرّق الميتم بينهما.
في المقابل تكشف الرّواية عن أنّ " بهاء" عاشتْ حياة كئيبة،وتعذّبت،وتاهتْ في دروب الحياة،إلى أن اضطرتْ إلى أن تبيع جسدها وقلمها كي تبقى على قيد الحياة،وفي نهاية المطاف أصابها سرطان الثّديين ثم سرطان الرّحم ثم سرطان الدّماغ الذي قضى عليها قضاء مبرماً.
تدخل " بهاء" في غيبوبة لمدّة عامين بسبب سرطان الدّماغ بعد وصولها إلى بيت " الضّحّاك " بأيّام قليلة،ويقرّر الأطبّاء أنّها قد دخلتْ في مرحلة الموت السّريريّ،وأنّها لن تعود إلى الحياة أبداً، لكن " الضّحّاك" يصمّم على أنّها سوف تستيقظ من سباتها إكراماً لحبّهما،ويلازمها في مرضها الطّويل،ويرفض بحزم أنّ تُفصل عنها أجهزة التّنفّس الاصطناعيّ والتّغذية،و يظلّ يقرأ لها من مخطوطتها الرّواية إلى أن ينتهي منها،ثم يحرقها في نار المدفأة كي لا تتذكّر حياتها السّابقة عندما تستيقظ،ويكتب لها حياة بديلة مفترضة يسجّلها في رواية مشتركة لهما باسم " أَدْرَكَهَا النّسيانُ" ،نزولاً عند حلمها بأن تكون لها رواية خاصّة بها تتحدّث فيها عن حكاية حبّهما منذ طفولتهما المعذّبة.
وفي نهاية الرّواية تكون المفاجأة الكبرى عندما تنتصر " بهاء" بحبّها لـ " الضّحّاك" على المرض وعلى الموت،وتستيقظ من سباتها الذي دام لعامين،وتتعافى من السّرطان بعد عدّة جلسات كيميائيّة،وتفاجئ الجميع بأنّها قد عادت إلى الحياة بعقل طفلة صغيرة لا ذاكرة عندها أو ماضٍ؛ إذ لا تتذكّر في الحياة أيّ شيء،سوى أنّ اسمها " بهاء"،وأنّ اسم حبيبها هو " الضّحّاك"،وأنّها تعشقه.
فيقرّر بطل الرّواية أن يعيش معها تجربة الطّفولة من جديد،ويتخلّى عن حياته كاملة بما فيها من شهرة وعمل أكاديميّ وسفر وترحال وأعمال تطوعيّة وبحثيّة،ويتفرّغ لشيء واحد،وهو الحياة مع حبيبته الطّفلة التي تعيش بعقل طفلة،وجسد امرأة تكاد تبلغ السّبعين من عمرها،بعد أن يتزوجها،ويطلق معها روايتهما المشتركة " أَدْرَكَهَا النّسيانُ" التي تلاقى نجاحاً كبيراً،وتحظى باهتمام القرّاء،وتُترجم إلى عدّة لغات عالميّة.
وتنتهي الرّواية على مشهد رومانسيّ لطالما حلمت به " بهاء" بعد أن رأته في طفولتها في فيلم سينمائيّ " في أفق بحريّ ما كان هناك ظلّان يركضان نحو الرّحب فرحين بالعشق الذي لا يموت،ولا أحد كان يعرف لهما اسماً أو ذكريات أو تاريخاً،والشّمس التي تغرق في أفق البحر الدّامي بها تحوّلهما إلى خيالين أسودين يلتحمان طويلاً في جسد قبلة عميقة"[3]
العنوان وتعدّد الإحالات:
منذ عنوان الرّواية الموجود على غلافها " أَدْرَكَهَا النّسيانُ" [4] دخولاً إلى الصّفحة الأولى منها تبدأ الرّوائيّة بالإمساك بخيوط المتاهة السّرديّة التي تصنعها بمهارة في رحلة سرديّة منهكة وشيّقة في آن عبر اصطناعها لأفعال التّذكّر والنّسيان في الرّواية؛ والعنوان المكتوب على غلاف الرّواية " يقودنا إلى أنّ أدركها سيكون بمعنى أصابها،فأَدْرَكَهَا النّسيانُ،يعني أنّ النّسيان قد أصابها،ونزل بها،وفي لسان العرب في مادة درك:" الدَّرَكُ: اللحَاق، وقد أَدركه. ورجل دَرَّاك: مُدْرِك كثير الإدْراك، وقلما يجئ فَعَّال من أَفْعَلَ يُفْعِل إلا أَنهم قد قالوا حَسَّاس دَرّاك، لغة أَو ازدواج، ولم يجئ فَعَّال من أَفْعَلَ إلاَّ دَرَّاك من أَدْرَك، وجَبّار من أَجبره على الحكم أَكرهه،وحكى اللّحيانيّ: رجل مُدْرِكةٌ، بالهاء، سريع الإدْراكِ، ومُدْرِكةُ: اسم رجل مشتق من ذلك.
وتَدَاركَ القومُ: تلاحقوا أَي لَحِق آخرُهم أَولَهم. وفي التنزيل: حتى إذا ادّارَكُوا فيها جميعاً؛ وأَصله تَدَاركوا فأدغمت التاء في الدال واجتلبت الألف ليسلم السكون. وتَدَارك الثَّرَيان أَي أَدرك ثرى المطر ثرى الأرض. اللّيث: الدَّرَك إدراك الحاجة ومَطْلبِه. يقال: بَكِّرْ ففيه دَرَك.
والدَّرَك: اللَّحَقُ من التَّبِعَةِ، ومنه ضمان الدَّرَكِ في عهدة البيع. والدَّرَك: اسم من الإدْراك مثل اللَّحَق. وفي الحديث: أَعوذ بك من دَرْك الشَّقاء؛ الدَّرْك: اللَّحاق والوصول إلى الشّيء، أدركته إدْراكاً ودركاً وفي الحديث: لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دَرَكاً له في حاجته.
والدَّرَك: التَّبِعةُ، يسكن ويحرك. يقال: ما لَحِقك من دَرَكٍ فعليَّ خلاصُه. والإدْراكُ: اللّحوق. يقال: مشيت حتى أَدْرَكته وعِشْتُ حتى أَدْرَكْتُ زمانه. وأَدْرَكْتُه ببصري أَي رأَيته وأَدْرَكَ الغلامُ وأَدْرَكَ الثمرُ أَي بلغ، وربما قالوا أَدْرَكَ الدقيق بمعنى فَنِيَ. واستَدْرَكْت ما فات وتداركته بمعنى. وقولهم: دَرَاكِ أَي أَدْرِكْ، وهو اسم لفعل الأَمر، وكُسرت الكاف لاجتماع السّاكنين لأَن حقها السكون للأَمر؛ قال ابن بري:جاء دَرَاك ودَرَّاك وفَعَال وفَعَّال إِنما هو من فعل ثلاثي ولم يستعمل منه فعل ثلاثيّ، ون كان قد استعمل منه الدَّرْكُ"[5].
أمّا إسناد الفعل أدركَ إلى ضمير التّأنيث الغائب،فهو يحيلنا إلى أنّ الفعل متعلّق بامرأة ما،وهي مجهولة لنا بدليل استخدام ضمير الغائبة،ولا ندري من أمرها إلاّ أنّ نسياناً ما قد أصابها لسبب مجهول،كما لا نعرف مصيرها،أو ما آلتْ إليه بمعيّة مرضها الذي غشيها.
ولكن بمجرّد أن ندخل إلى الصّفحة الدّاخليّة من الغلاف نتفاجأ بأنّ الرّواية تقودنا إلى مستوى آخر من المعنى،وهو معنى الإنقاذ لا معنى الإصابة بالمرض،وذلك عندما تضع الرّوائيّة عنواناً فرعيّاً تحت العنوان الرّئيسيّ تقول فيه "حكاية امرأة أنقذها النّسيان من التّذكّر"[6]،فيحيلنا العنوان عندها إلى تلك العلاقة الجدليّة الاستدعائيّة في الرّواية حيث النّسيان هو من أنقذ بطلتها " بهاء" من ألم التّذكّر الذي يخنقها بالألم والحسرة والخسارات، ولذلك تواطأتْ مع مرض السّرطان،وكأنّه صديقها،كي ينقذها من التّذكّر،ولذلك تكتب في مخطوطته المذكّرة أنّها تحتاج إلى النّسيان لتهرب من ألم الماضي " لستُ حزينة لأنّني مريضة بالسّرطان؛ فأنا امرأة تحتاج أن يدركها النّسيان كي تنسى آلامها وأحزانها.الآن أشعر أنّ هذا المرض هو أكرم من قابلتُ في حياتي؛فهو وحده من سيخلعني من التّذكّر،ويخلع التّذكّر مني.آن لي أن أرتاح،وأن يدركني النّسيان كي أسعد بالباقي القليل من حياتي.ولكَ أيّها المرض أن تعرفني عندما جهلتُ نفسي،وأن تؤمن بي عندما كفرتُ بي،وأنْ تتذكّر منّي،ما لم أعد قادرة على تذكّره " [7]
بل إنّ النّسيان يصبح المنقذ والرّحيم بـ "بهاء" – وفق ما تعتقد- في إزاء قسوة البشر عليها " أيّها المرض الخبيث لا تحزن،ولا تنقهر من كلامي هذا؛ فلستُ متكبّرة عليكَ،أو متسامية على بطشكَ،أو كارهة لنزولكَ بي.ولا أقول لكَ هذا الكلام نكاية بكَ؛فأنا أشهد بأنّكَ فتّاك شرس لا ترحم،ولكنّني شاكرة لكَ لأنّكَ ستكون أوّل من يرفق بي،ويريحني من ذاكرة عبء على روحي؛فهي لا تنفكّ تعذّبني بي،وأنت تلحّ على أن تخلّصني منها.ألستَ بذلك أرحم من قابلتُ وعرفتُ؟" [8]
ونستطيع القول إنّ النّسيان في هذا الرّواية قد تحوّل إلى معادل موضوعيّ للنّجاة والحبيب والتّطهّر والمخلّص؛ بعد أن ظنّت " بهاء" أنّ حبيبها " الضّحّاك" قد تخلّى عنها في الماضي " يبدو أنّه خشي من أنْ تلقي الشّرطة القبض عليه،ففضّل أن يخذلني وأن ينساني، بدل أن يجازف بحرّيته في سبيل تهريبي من الميتم كما وعدني عشيّة طرده منه"[9]،فأصبح النّسيان هو المنقذ لها،وهو الذي يحبّها بمعنى ما،ويرافقها دون انفكاك عنها،كما يعطيها فرصة للتطّهر من ماضيها،والتوّقف عن بيعها لنفسها ولكلماتها " لم أفكّر بالتّطهّر إلاّ بطريقتي،واكتفيتُ بغسل جسدي بالملح ومن ثم ماء الورد لتطهيره ممّا علق به من دنس من ولغوا فيه،وبعد ذلك قرّرتُ أن أجعله محرّماً على البشر أجمعين كي أقدّمه للموت طاهراً من كلّ درن أو رجس أو قذارة أو دنس" [10]
وعندما تكتب " بهاء" لحبيبها " الضّحّاك" فهي تجزم بأنّها قد رأتْ في النّسيان المرضي تطهيراً لها ممّا علق بها من أوجاع وخطايا وآثام : " ليس المرض الذي فتك بي هو من يدفعني الآن إلى الكتابة له،بل هي رغبتي في أن أتطهّر من النّجس الذي علق بي في رحلتي المضنية في حلبة الصّراع الشّرس غير المتكافئ بين امرأة وحيدة معدمة وبين حياة متوحّشة متنمّرة".[11]
وجملة القول إنّ " بهاء" سعيدة بهذا النّسيان الذي أنقذها من وجع الذّكريات وجرائر أفعال الماضي التي تورّطت فيها رغم أنفها وإرادتها :" أيّها النّسيان لقد أدركتني في الوقت المناسب؛ما عاد لي أيّ حاجة في التّذّكر،كم أنا سعيدة الآن لأنّني امرأة أَدْرَكَهَا النّسيانُ،فأنقذها منها،ومن عذابات التّذكّر،ومن أوجاع الماضي ومن خيبات الحاضر والمستقبل" [12]
وإيغالاً في لعبة التّنكير التي تلعبها الرّوائيّة في روايتها هذه،هي تجعل جملة "حكاية امرأة أنقذها النّسيان من التّذكّر" [13]التي أتمّت بها عنوان الرّواية في صفحة العنوان الدّاخليّة للرّواية هي من وضع ناشر رواية " أَدْرَكَهَا النّسيانُ" التي كتبها " الضّحّاك"،وليستْ من وضعها هي :" وكتب اسمه واسمها على غلاف الرّواية بوصفهما مؤلفي الرّواية،ودفعها إلى النّاشر الأشهر في الدّول الاسكندنافيّة بعد أن تحمّس لنشر الرّواية باسمها الذي اختاره " الضّحّاك" لها،وأستأذنه في أن يكتب بخطٍّ صغير تحت العنوان الرّئيسيّ للرّواية : "حكاية امرأة أنقذها النّسيان من التّذكّر"[14]
وبذلك تهرب الرّوائيّة سناء شعلان من تبعات التّفسير والتّأويل للعنوان،وتتمسّك ظاهريّاً بالعنوان المعلن للرّواية،ليكون الحديث ظاهرياً عن إصابة امرأة ما بالسّرطان،في حين العنوان الصّغير "حكاية امرأة أنقذها النّسيان من التّذكّر" هو من يحمل التّأويلات الحقيقيّة للأحداث والرّموز والأشخاص،ويفتح باب الإسقاطات على مصراعيه،ويعطي القيمة التّرميزيّة الحقيقيّة للرّواية التي تتجاوز أنّها قصّة معاناة امرأة سحقها المجتمع،لتصبح حكاية أمّة كاملة،ومكابدات شعوب بأكملها.
الإهداء والإحالة إلى الدّاخل:
هذه الرّواية تقوم على المفارقة في تفاصيلها جميعاً؛ حتى في إخراجها الورقيّ في طبعتها الأولى هي تقدّم مفارقة تثير التّأويلات؛ فالإهداء الموجود في الرّواية خارج متنها يحيل إلى داخلها،والأصل أن يحيل إلى خارجها كما هي عادة الإهداءات الأدبيّة والبحثيّة والفنيّة؛ فقد جرت العادة أن يكون الإهداء نصّاً خارجاً على النّص أو العمل الإبداعيّ أو البحثيّ،ويحيل إلى خارجه حيث هناك الأناس الذين يعيشون في الحيوات الحقيقيّة،ويقدّمون العون للمبدعين والفنانين والباحثين والمنجزين،ولكن الحال مختلف بما يخصّ الإهداء المقدّم إلى الأديب العراقيّ المعاصر عباس داخل حسن[15] " إلى الأديب عبّاس داخل حسن المصلوب تحت سماء القطب كنجمة الفينيقيين ؛ إنسان دافئ في زمن الصّقيع الأكبر،ورجل أسطوريّ يعيش في مساحة المستحيل،وفي انتظار ما بعده انتظار،ويخلص للتّذكّر رغم مواجعه،ويرسم دفئاً على الصّمت البارد" [16]، فهذا الإهداء يحيل إلى داخل الرّواية بشكل مباشر؛ إذ هو نفس الإهداء الذي كتبه " الضّحّاك" لحبيبته " بهاء" في مقدّمة عمله البحثيّ ذا الأجزاء السّبعة " مزامير العشّاق في دنيا الأشواق" إلى بهاء المصلوبة تحت سماء القطب كنجمة الفينيقيين؛ إنسانة دافئة في زمن الصّقيع الأكبر،وامرأة أسطوريّة تعيش في مساحة المستحيل،وفي انتظار ما بعده انتظار،وتخلص للتّذكّر رغم مواجعه،وترسم دفئاً على الصّمت البارد".[17]
فهل الأديب عباس داخل حسن موجود في الرّواية وأحد أبطالها؟ أما " بهاء" موجودة في عالم ذلك الأديب؟ أم أنّ الرّوائيّة قد مارستْ غوايتها في التّلاعب بالملتقّي،وتوريطه في المزيد من الحيرة والقلق والشّك عبر تداخل عوالم الرّواية بعوالم الحقيقة بأكثر من شكل وبعدّة طُرق فنّية،وهذا الإهداء الملغز المقلوب الاتّجاه صورة من صور مزجها لتلكم العوالم؟
أعتقد أنّ سناء شعلان قد أنجزت رواية لم تقف عند حدّ محدود من الإحالات،بل سمحت لنفسها بأن تكتب ما تشاء وكيفما تشاء دون أن تبالي سوى بشيء واحد،وهو " بهاء" و" الضّحّاك" وحبّهما المشتهى،ودون ذلك لم تبال بالواقع المأزوم الذي عرّته دون احترام له،وفضحت المسكوت عنه فيه،وقالتْ بكلّ جرأة: " أنا أراكم".
وتركت للمتلقي أن يفكّر طويلاً : هل قامت بجرّ الواقع إلى روايتها؟ أم جرّت روايتها إلى الواقع؟
أيّاً كانت الإجابة،فذلك لا يغيّر من حقيقة دهشتنا وكسر أفق توقّعنا عندما نرى " الضّحّاك" يهدي كتابه البحثيّ الملحميّ لحبيبته " بهاء" ،ثم نجد سناء شعلان تهدي روايتها " أَدْرَكَهَا النّسيانُ " للأديب عباس داخل حسن بالعبارات ذاتها التي استخدمها " الضّحّاك"،دون أن نستطيع الجزم بالحدود الفاصلة بين الحقيقة والمخيال في هذين الإهداءين.
تداخل السّرد وتركيب المتون:
هذه الرّواية تتكوّن من أكثر من متن سرديّ متداخل،بل هي في حقيقة الحال تتشكّل من خمسة روايات تقع في متن رواية واحدة ؛ فالرّواية الأولى هي رواية " أَدْرَكَهَا النّسيانُ " التي تضع سناء شعلان اسمها على غلافها بوصفها مؤلّفتها،وتتكوّن من ثلاثين فصلاً تحمل على التّوالي اسم النّسيان من واحد إلى ثلاثين.وهذه الرّواية هي الوعاء الشّكليّ على امتداد الورق للسّرد الكامل الممتدّ منذ صفحة البداية حتى صفحة النّهاية،وهي تتقاطع داخليّاً مع الرّوايات الأربع الأخرى التي تنساب داخلها،وتتداخل معها،وتصبح جزءاً من لحمتها.
ومن ثم هناك الرّواية الثّانية في متن هذه الرّواية وهي رواية " أَدْرَكَهَا النّسيانُ" التي كتبها " الضّحّاك" لتكون حياة جديدة لحبيبته الغارقة في غيبوبة طويلة " لقد قرأ كلّ ما كتبته " بهاء" من ذكريات عن حياتها البائسة في روايتها،ثم مزّق كلّ ما كتبتْ،واختطّ لها ذكريات جديدة ذات بهاء يشبه بهاء جمالها الأحمر في روايتهما " أَدْرَكَهَا النّسيانُ" ،ولكنّها لم تعبأ بأقدارها الجديدة التي حاكها لها في روايتهما الأسطورة،وهجرتْ هذا العالم دون عودة "[18].
وهذه الرّواية لم نعرف ما هي تفاصيلها أو أحداثها،لكنّنا نعرف أنّ " الضّحّاك" كتبتها على نيّة أن يجعل منها تاريخاً جديداً لحبيبته "بهاء" : " سأكتبُ لكِ أجمل الحكايات،وسأسمّي روايتنا هذه " أَدْرَكَهَا النّسيانُ"،وسأكتب اسمي واسمكِ عليها،ولذلك لن أكتبَ فيها إلاّ ما تشتهين أن يكون في حياتكِ،وسوف أدفن في صدري أيّ حقيقة لم تريدي أن تبوحي بها إلاّ لي.سأقرأ بتقديس سيرة خطاياكِ وأخطائكِ وزلّاتكِ،وسوف أدفنها في صدري،ولن تزيدكِ زلّاتكِ في عيني إلاّ عظمة وقدسيّة ونقاء،سأكتب لكِ بدلاً عنها أجمل تفاصيل الفضيلة والنّبل والسّمو،سوف تكون روايتنا لنا ولحبّنا،أمّا العابرون فينا،فسوف أنفيهم من روايتنا،لن يكون لنا من التّذّكر سوف ما نشتهي. بعد الآن لن تكوني مجرّد امرأة أَدْرَكَهَا النّسيانُ،بل سوف أتوّجكَ ملكة على قلبي وعلى جبين الخلود على الرّغم من أنف المرض والنّسيان والألم".[19] .
وقد ظلّ " الضّحّاك " ينتظر أن تستيقظ حبيبته " بهاء" من سباتها،لتجد الرّواية التي كتبها لأجلها في انتظارها،" بعد أن بذل جهده ليل نهار في كتابتها لتجد ليغيّر أقدارها بها؛ إذ كتب فيها حياة جديدة لتنسى تماماً أيّ ذكريات مؤلمة عاشتها في الماضي.
وكي يجبرها على الاستيقاظ فقد قام بطبع هذه الرّواية،وملأ حجرتها بنسخ منها،وظلّ ينتظر خروجها من غيبوبتها كي يوقعا الرّواية في حفلة توقيع خاصّة بهما " صديقاه الاثنان كانا يقفان إلى يمناه يتأملان وجهه الحزين الكسيف الموزّع النّظرات بين وجه " بهاء" وأكوام نسخ رواية " أَدْرَكَهَا النّسيانُ" التي نشرها في كلّ مكان في حجرتها في انتظار أن تستيقظ،وتحتفل معه بصدور طبعتها الأولى"[20]
وعلى الرّغم من غياب نصّ هذه الرّواية عن سرديّات الأحداث،إلاّ أنّها تتصدّر الأحداث السّعيدة في نهاية الرّواية الورقيّة،ويتمّ نشرها،وتلاقي نجاحاً منقطع النّظير،وتُترجم إلى عدّة لغات دون أن نعرف ما هو مكتوب فيها على وجد الدّقّة " رواية أَدْرَكَهَا النّسيانُ طبّقت الآفاق شهرة وحضوراً،وحقّقت مبيعات هائلة أغرت النّاشر بترجمتها إلى أكثر من لغة،وأكثر من جهة إعلاميّة وأكاديميّة وثقافيّة عقدتْ جلسات حواريّة ونقاشيّة حولها،وتلقّت أكثر من عرضّ مغرٍ لتحويلها إلى أفلام سينمائيّة.لقد بات العالم كلّه يعرف قصّة العاشقين : "الضّحّاك " و" بهاء" اللّذين انتصرا على الموت والنّسيان والفراق بقوّة حبّهما الخالد" [21]
أمّا الرّواية الثّالثة في متن الرّواية الأم ،فهي رواية المخطوطة التي كتبتها " بهاء" بخطّ يدها لتكون رسالة اعتراف تضعها بين يدي حبيبها " الضّحّاك"،وقد اصطحبتها معها في رحلة علاجها من السّرطان على الرّغم من النّسيان الذي هاجمها،وهي رواية مخطوطة عملاقة سيريّة،وهي فعليّاً من تشكّل جسد الرّواية،وتقدّم أحداثها،وتفصح عن حقائقها وأزماتها،وتصحب القارئ في رحلة زمنيّة تمتد لسبعين عاماً في حياة بطلي الرّواية،وفي متنها هناك الحقائق والاعترافات والخلجات والآلام،وقد انتهتْ هذه الرّواية الدّاخليّة المخطوطة بمجرّد أن انتهتْ بطلتها السّاردة الدّاخليّة التي اسمها " العاشقة" من رواية أحداث حياة " بهاء"،عندها قام " الضّحّاك" بإعدام الرّواية بإحراقها في مدفأة بيته " عندما تبخّرت بعض دموعه من أوار النّار المتعالي في المدفأة،أطعمها دفعة واحدة الرّواية المخطوطة الخاصّة بجميلته الحمراء النّائمة،ووقف يستمتع بتشفٍ وهو يرقب ألسنة النّار تأكل المخطوطة بشهوة ملتهبة،لتحوّلها إلى جمرة ثم إلى رماد في دقائق" [22]
وبذلك أعدم " الضّحّاك" الرّواية المخطوطة التي كتبتها " بهاء" بخط يدها كي يدفن الماضي فيها،ويلعب لعبة النّسيان الاختياريّ؛ فهو أيضاً يريد أن ينسى ما حدث مع " بهاء"،ويبغي أن لا تتذكره بأيّ شكل من الأشكال " هذه المخطوطة هي مخطّط لرواية أنتِ من كتبها،وأنتِ من رسم شخصيّاتها،كما أنتِ من رسم شخصّية بطلتها التي أسميتها " العاشقة "،هي رواية جميلة دون شكّ، لكن لا علاقة لكِ بها،فحياتكِ كانتْ مختلفة تماماً،ولعلّها كانت نقيضاً لحياة البطلة التّعسة الحزينة التي حلّ بها مرض نادر أصابها بالنّسيان".[23]
وفي نهاية الرّواية/ في النّسيان الثّلاثين هناك عدد كبير من النّهايات المحتملة لها ،ومنها نهاية تهدم ما حدث في الفصول التي سبقتها،إذ تفترض أنّ الرّواية المخطوطة الخاصّة بـ "بهاء" لم تُحرق،وأنّ هناك اتّجاه آخر في الأحداث " في الرّواية المخطوطة- الملعونة التي لم تفنَ في حادثة إحراق " الضّحّاك" لها " لم تجد " بهاء" الدّرب إلى " الضّحّاك" ،ولذلك اخترعتْ " ضحّاكاً " جديداً من بناء خيالها الحالم،وظلّت تهذي باسمه وبقصصها الكثيرة معه حتى غدت مجرّد اسماً مكتوباً في لائحة الموتى في مشرحة كليّة الطّبّ في جامعة العاصمة؛ لأنّ لا أحد أبدى أيّ رغبة في استلام جثّتها من المستشفى،ودفنها على حسابه الخاصّ في أيّ بقعة من بقاع الأرض جميعها" [24]
وهذه النّهاية المفجعة المفترضة تشكّل المتن الرّوائيّ الرّابع للرّوايات المتداخلة في هذه الرّواية،وهي رواية مفترضة تقول بأنّ المخطوطة الملعونة لم تحترق،وهي بذلك تحليلنا إلى رواية خامسة مفترضة،وهي رواية في فقرة واحدة فقط،وتفترض أنّ الرّواية بأحداثها كاملة لم تحدث أساساً،وأنّ " بهاء" و " الضّحّاك" تمّ قتلهما في الميتم في طفولتهما،ودُفنا في قبوه،ولم يكبرا ،وبالتّالي لم يعيشا متن الرّواية الأم التي تحمل أحداث حكايتهما " في رواية مخيفة يتناقلها أطفال الميتم عن الشّبحين اللّذين يعيشان في القبو يذكرون أنّ هناك طفلة حمراء ملعونة وطفلاً عاشقاً لها مدفونان في تراب القبو بعد أن حبستهما مديرة الميتم في القبو إلى أنْ ماتا جوعاً" [25]
وهناك المتن الرّوائيّ الخامس المفترض داخل الرّواية،وهو متن يمتدّ في فقرة واحدة،وهو متن مباغت ومفاجئ وفيه كسر كامل للتوّقعات؛ إذ يفترض هذا المتن أنّ رواية " أَدْرَكَهَا النّسيانُ" هي رواية كتبتها السّكرتيرة " باربرا " عن عاشقين مشرقيين " هذا ما كتبته " باربرا " في روايتها الشّهيرة الأكثر مبيعاً في بلاد الثّلج والصّقيع التي تحمل عنوان" أَدْرَكَهُمَا النّسيانُ"[26]
متاهة السّرد وتركيب البناء وكابوسيّة التّذّكر:
هذه الرّواية تتكوّن من ثلاثين فصلاً كلّ منها حمل عنوانَ نسيانٍ ما،وهذه الفصول تقدّم متاهة سرديّة منهكة ومدوّخة تجعلنا في النّهاية نشعر بالرّعب والفزع والقلق والإجهاد ممّا انثال علينا من تفاصيل وأحداث ومعاناة جرّدت المجتمع من ورقة التّوت التي تستر عورته،وأظهرتْ فضائحه وعيوبه،وعرّت مخازي شرائحه،وفضحت حقائقه عبر قصّة حياة " بهاء" و" الضّحّاك"،وهما قصّتان تنتظمان قصص المجتمعات العربيّة،بل الأمّة العربيّة،ويمكن إسقاطمها على حياة الشّعوب المضطهدة في كلّ مكان في كوكب الأرض،لنصل إلى نتيجة مفزعة كابوسيّة واحدة،وهي أنّنا جميعاً نعيش في ميتم كبير حيث الألم والوجع والحرمان " إنّه الميتم في كلّ مكان"[27]،وفي ظلّ هكذا وضع يحرم الإنسان من أصغر حقوقه في الحياة "عندما تحترق الأوطان يصبح العشق محرّماً " [28]،وبذلك يصبح الوجع هو حجته وتاريخه وتجربته في الحياة" مَنْ عشقْ حُجّة على مَنْ لم يعشقْ،ومَنْ تألّمْ حُجّة على مَنْ لم يتألّمْ " [29]
وهذه الخلاصة الكابوسيّة هي ما نجدها في بداية الرّواية على شكل استهلالات منقولة عن كتاب ملحمة " مزامير العشّاق في دنيا الأشواق" الذي كتبه بطل الرّواية " الضّحّاك"،وتخدعنا الرّوائيّة سناء شعلان عندما تقدمها على أنّها استهلالات لا أكثر،وهي في حقيقة الأمر مفاتيح للدّخول إلى الرّواية،بل هي حقيقتها،وفحواها،إنّها باختصار تقول لنا إنّنا نعيش جميعاً في ميتم كبير اسمه الوطن،وفي هذا الميتم ليس هناك سوى الوجع والحرمان والألم،فهو كابوس مقيم في حيوات الجميع.